سورة التوبة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)}
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ} جواب {لَوْ} محذوف، التقدير لكان خيرا لهم.


{إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}
فيه ثلاثون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ} خص الله سبحانه بعض الناس بالأموال دون بعض نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بقوله: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} [هود: 6].
الثانية: قوله تعالى: {لِلْفُقَراءِ} تبيين لمصارف الصدقات والمحل، حتى لا تخرج عنهم. ثم الاختيار إلى من يقسم، هذا قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما. كما يقال: السرج للدابة والباب للدار.
وقال الشافعي: اللام لام التمليك، كقولك: المال لزيد وعمرو وبكر، فلا بد من التسوية بين المذكورين. قال الشافعي وأصحابه: وهذا كما لو أوصى لأصناف معينين أو لقوم معينين. واحتجوا بلفظة {إِنَّمَا} وأنها تقتضي الحصر في وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف وعضدوا هذا بحديث زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يبعث إلى قومي جيشا فقلت: يا رسول الله احبس جيشك فأنا لك بإسلامهم وطاعتهم، وكتبت إلى قومي فجاء إسلامهم وطاعتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أخا صداء المطاع في قومه». قال: قلت بل من الله عليهم وهداهم، قال: ثم جاءه رجل يسأل عن الصدقات، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جزاها ثمانية أجزاء فإن كنت من أهل تلك الاجزاء أعطيتك» رواه أبو داود والدارقطني. واللفظ للدارقطني. وحكي عن زين العابدين أنه قال: إنه تعالى علم قدر ما يدفع من الزكاة وما تقع به الكفاية لهذه الأصناف، وجعله حقا لجميعهم، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم. وتمسك علماؤنا بقول تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وارد ها على فقرائكم». وهذا نص في ذكر أحد الأصناف الثمانية قرآنا وسنة، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وحذيفة.
وقال به من التابعين جماعة. قالوا: جائز أن يدفعها إلى الأصناف الثمانية، وإلى أي صنف منها دفعت جاز. روى المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ} قال: إنما ذكر الله هذه الصدقات لتعرف وأى صنف منها أعطيت أجزأك.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ} قال: في أيها وضعت أجزأ عنك. وهو قول الحسن وإبراهيم وغيرهما. قال الكيا الطبري: حتى ادعى مالك الإجماع على ذلك. قلت: يريد إجماع الصحابة، فإنه لا يعلم لهم مخالف منهم على ما قال أبو عمر، والله أعلم. ابن العربي: والذي جعلناه فيصلا بيننا وبينهم أن الامة اتفقت على أنه لو أعطي كل صنف حظه لم يجب تعميمه، فكذلك تعميم الأصناف مثله. والله أعلم.
الثالثة: واختلف علماء اللغة واهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال: فذهب يعقوب بن السكيت والقتبي ويونس بن حبيب إلى أن الفقير أحسن حالا من المسكين. قالوا: الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، واحتجوا بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد
وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة والحديث منهم أبو حنيفة والقاضي عبد الوهاب، والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام، يقال: حلوبته وفق عياله أي لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه، عن الجوهري.
وقال آخرون بالعكس، فجعلوا المسكين أحسن حالا من الفقير. واحتجوا بقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79]. فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر. وربما ساوت جملة من المال. وعضدوه بما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه تعوذ من الفقر. وروي عنه أنه قال: {اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا}. فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لتناقض الخبران، إذ يستحيل أن يتعوذ من الفقر ثم يسأل ما هو أسوأ حالا منه، وقد استجاب الله دعاءه وقبضه وله مما أفاء الله عليه، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية، ولذلك رهن درعه. قالوا: وأما بيت الراعي فلا حجة فيه، لأنه إنما ذكر أن الفقير كانت له حلوبة في حال. قالوا: والفقير معناه في كلام العرب المفقور الذي نزعت فقره من ظهره من شدة الفقر فلا حال أشد من هذه. وقد أخبر الله عنهم بقوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 273]. واستشهدوا بقول الشاعر:
لما رأى لبد النسور تطايرت *** رفع القوادم كالفقير الأعزل
أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ولصق بالأرض. ذهب إلى هذا الأصمعي وغيره، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين. وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه. وللشافعي قول آخر: أن الفقير والمسكين سواء، لا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم، وهو القول الثالث. وإلى ه


{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)}
بين تعالى أن في المنافقين من كان يبسط لسانه بالوقيعة في أذية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقول: إن عاتبني حلفت له بأني ما قلت هذا فيقبله، فإنه أذن سامعة. قال الجوهري: يقال رجل أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {هُوَ أُذُنٌ} قال: مستمع وقابل. وهذه الآية نزلت في عتاب بن قشير، قال: إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له.
وقيل: هو نبتل بن الحارث، قال ابن إسحاق. وكان نبتل رجلا جسيما ثائر شعر الرأس واللحية، آدم أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة، وهو الذي قال فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث». السفعة بالضم: سواد مشرب بحمرة. والرجل أسفع، عند الجوهري. وقرى {أذن} بضم الذال وسكونها. {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أي هو أذن خير لا أذن شر، أي يسمع الخير ولا يسمع الشر. وقرأ {قل أذن خير لكم} بالرفع والتنوين، الحسن وعاصم في رواية أبي بكر. والباقون بالإضافة، وقرأ حمزة {ورحمة} بالخفض. والباقون بالرفع عطف على {أذن}، والتقدير: قل هو أذن خير وهو رحمة، أي هو مستمع خير لا مستمع شر، أي هو مستمع ما يحب استماعه، وهو رحمة. ومن خفض فعلى العطف على {خَيْرٍ}. قال النحاس: وهذا عند أهل العربية بعيد، لأنه قد تباعد ما بين الاسمين، وهذا يقبح في المخفوض. المهدوي: ومن جر الرحمة فعلى العطف على {خَيْرٍ} والمعنى مستمع خير ومستمع رحمة، لان الرحمة من الخير. ولا يصح عطف الرحمة على المؤمنين، لان المعنى يصدق بالله ويصدق المؤمنين، فاللام زائدة في قول الكوفيين. ومثله {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}
[الأعراف: 154] أي يرهبون ربهم.
وقال أبو علي: كقوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] وهي عند المبرد متعلقة بمصدر دل عليه الفعل، التقدير: إيمانه للمؤمنين، أي تصديقه للمؤمنين لا للكفار. أو يكون محمولا على المعنى، فإن معنى يؤمن يصدق، فعدي باللام كما عدي في قوله تعالى: {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} [المائدة: 46].

14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21